الجمعة، 9 سبتمبر 2011

الحرب القادمة .. اقتصادية لا عسكرية


هذا مقال للمحلل والخبير الاقتصادي سهيل الدراج



الحرب القادمة .. اقتصادية لا عسكرية !



سهيل الدراج - الرياض - الأحد 16 مارس 2008م

قد يكون من المفيد ان تسترجع ذاكرتنا القنابل النووية على هيروشيما ونجازاكي خلال الحرب العالمية الثانية عندما نتحدث عن الحروب التقليدية ، لكن عندما نتحدث عن الحروب القادمة فيجب علينا ان نستحضر الدولار الأمريكي لا القنابل والدبابات وطائرات f16 والبوارج الامريكية .. الحرب القادمة قد تكون اقتصادية لا عسكرية .. وادواتها هى الدولار الأمريكي والسياسات المالية والنقدية العالمية ، واطرافها هى الولايات المتحدة الامريكية في مقابل الصين والهند والاقتصادات الناشئة والاتحاد الاوروبى الجديد .

اذا ماسلمنا ان الاقتصاد والنمو الاقتصادي هو المحرك الرئيس للقوة السياسية والعسكرية ، فإنه يتوجب علينا بادئ ذي بدأ فهم مايجرى حولنا من منظور اقتصادى .. فانهيار الاتحاد السوفياتي في أوائل تسعينات القرن الماضي كان بأسباب اقتصادية ، وعودة روسيا الجديدة الى الساحة الدولية من جديد كانت ايضا لأسباب اقتصادية .. وبروز الصين والهند والبرازيل كقوى اقتصادية ناشئة قد يؤدى الى تعاظم دورها السياسيى وربما العسكري في المستقبل القريب ..

النظريات الاقتصادية هى نفسها قابله للتغير ، فقد تحول العالم بعد الكساد الكبير عام 1929م عن نظريات ادم سميث في الاقتصاد الى نظرية كينز .. وتغيرت فكرة الدولار القوى لدى المخططيين الاستراتيجيين في واشنطن ، ولم تعر الصين اى اهتمام للتضخم كعامل من عوامل الضغط على النمو الاقتصادي .. كذلك فان اليابان ابطلت مفعول السياسة النقدية من خلال ابقاء الفائدة على الين اليابانى عند مستويات تقترب من الصفر ..

الولايات المتحدة تدرك حقيقتين هامتين هما : توفر مصادر الطاقة باسعار مناسبة سيكون كفيلاً باستمرار الهيمنة الاقتصادية والعسكرية على العالم ، فلا فائدة للأف 16 أو حاملات الطائرات او الغواصات النووية اذا لم تجد الوقود الذى يحركها .. أما الحقيقة الأخرى فهى ان استمرار النمو الاقتصادي سيؤدى الى استمرار الانفاق على البحث والتطوير واستمرار الهيمنة العسكرية والاقتصادية على العالم في زمن القطب الواحد .. وللانطلاق من هاتين الحقيقتين كان لابد للولايات المتحدة أن تقترب أكثر من منابع النفط في بحر قزوين وفى منطقة الخليج .. وفعلاً تحقق لها ما أرادت فقد اقتربت اكثر من اى وقت مضى من بحر قزوين من خلال تواجدها في افغانستان بحجة مكافحة الارهاب ، لتصبح على مرمى حجر من الأعداء المفترضين أو المتوقعين مستقبلاً وهما الصين وربما روسيا أو الهند .. كما انها اقتربت من منابع النفط في الخليج من خلال تواجدها في العراق بحجة محاربة صدام واعادة الديموقراطية ومحاربة الارهاب .. وهى بذلك تقترب من ايران العدو المفترض ايضاً .. وأصبحت الولايات المتحدة تلعب دور شرطى المرور الذى سيعمل على انسياب النفط دون أى عوائق من الدول المنتجة الى الدول المستهلكة .. ومن جهة اخرى عملت الولايات المتحدة على زيادة مخزونها الاستراتيجي من النفط خلال فترة الرئيس بوش الابن عندما كانت الاسعار مرتفعه وتتراوح بين 70 الى 90 دولارا للبرميل منذ منتصف 2007م ، في اشارة الى ان اسعار المخزون التى كانت تعتبر مرتفعة في ذلك الوقت ستصبح رخيصة الثمن اذا ما وصل سعر النفط الى 200$ ..

النظريات الاقتصادية القديمة كانت تتحدث عن ان كل ارتفاع مقداره 4 او 5 دولار في سعر النفط يؤدي الى اضعاف النمو الاقتصادي العالمي بمقدار 1% .. لكن هذه النظرية اصبحت في بطون الكتب التاريخية فقط ، فالتجربة العملية اثبتت عدم صحة تلك النظريات ، فارتفاع اسعار النفط من 25$ للبرميل الى مستويات 109$ الحالية لم تؤثر في النمو العالمي قيد أنمله خلال سنوات الصعود هذه .. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد فشلت في كبح جماح نمو الاقتصادات العالمية بعد تعمدها رفع اسعار النفط .. فالفكرة الامريكية تركزعلى رفع اسعار النفط العالمية على جميع دول العالم مما يضعف اقتصاداتها ويدخلها في دوامة الركود والمشاكل الاقتصادية ، في حين ان الولايات المتحدة ستنجو من الاخطار نظرا لحصولها على النفط باسعار تفضيلية اقل بكثير من السعر السوقى ، فضلاً عن عقود الامتياز التى تتمتع بها 7 شركات نفطية امريكية تسيطر على اغلب عقود استخراج النفط في العالم .

الولايات المتحدة خلال فترة الجمهوريين بقيادة بوش عملت على اثارة المشاكل التى تؤدي الى ارتفاع اسعار النفط ، بدأ من بيانات مخزونات النفط الامريكي التى لعبت وما زالت تلعب دورا رئيسياً في الارتفاع ، مرورا بتشجيع المضاربين على رفع الاسعار من خلال امدادهم بالرؤى والتصاريح التى يفهم منها أن الارتفاعات ستكون الى مالانهاية ، ولا ننسى القلاقل والمشاكل في نيجيريا ومن يقف وراءها ، وتعمد اثارة المشاكل والتصاريح الاعلامية المستمرة ضد الدول النفطية المنتجة للنفط كفنزويلا وايران ، الى غير ذلك مما يصعب حصره .. لكن اسعار النفط المرتفعة لم تمنع الاقتصادات الحديثة والناشئة من استمرار نموها ليصعد نجم الصين بقوة ، وتتقدم متجاوزة أهم النماذج الاقتصادية الناجحة التى بنتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ، فلقد تمكنت الصين من تجاوز ثالث اكبر اقتصاد في العالم الاقتصاد الالماني ، ولم تجد صعوبة في تجاوز ثانى اكبر اقتصاد في العالم وهو الاقتصاد اليابانى ، لتقف على مسافة ليست بعيدة عن اكبر اقتصاد في العالم الاقتصاد الامريكي .. اذا 15 سنة فقط هى الفترة التقديرية التى سيستغرقها الصينيين ذوى التعداد 1.3 مليار نسمة لتجاوز الاقتصاد الأمريكي لتصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم .. أما الهند فقد تجاوزت ألمانيا وتقف في المركز الرابع خلف اليابان ، وتحتاج الى حوالي من 6 الى 8 سنوات لتتجاوز اليابان ..

مالذى يحدث ؟ .. وكيف استطاعت هذه الدول الفقيرة من الصعود بقوة لتنافس اسيادها مجموعة دول السبع ودول الثمانية ومجلس الأمن والدول صاحبة حق الفيتو ، اين هي من صندوق النقد والبنك الدولي والمنتدى الاقتصادي العالمي ..؟!! انه انقلاب على المفاهيم الاقتصادية السائدة ، انها ثورة الفقراء .
في الوقت الذى تفرغت فيه هذه الدول الناشئة للتنمية الاقتصادية والاصلاحات الاقتصادية ، انشغلت الولايات المتحدة خلال العقدين الماضيين وخصوصا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة ، انشغلت في الحروب مع الأعداء المفترضين ، وأعادت الى الأذهان المفاهيم العسكرية التى عفا عليها الزمان والمتمثلة في الاجتياحات العسكرية والتدخل المباشر في شؤون الدول ، مما كلفها استنزافاً لمقدراتها الوطنية ، وخسارة لسمعة أعرق الديموقراطيات على وجه الأرض ، وانهياراً لمبادئها في العدل والاحسان ..
وعلى الرغم من وجود هذه الترسانة المتطورة من السلاح والعتاد لدى الولايات المتحدة ، الا انها فشلت في اخضاع الكثر من الدول والشعوب ، بل نستطيع ان نقول انها خسرت المعركة في العراق ، وربما أفغانستان .. وفى نفس الوقت فان هذا الفشل العسكرى أدى الى تنامي العداء وموجة الغضب ضد الولايات المتحدة ، بدأ من ايران ومنطقة الشرق الأوسط مروراً بدول امريكا الجنوبية بقيادة كوبا وفنزويلاً ، وانتهاءاً بشرق وجنوب القارة الاسيوية .. ومع فشل امريكا سياسياً وعسكرياً ، فشلت اقتصادياً حيث استطاع الاقتصاد الامريكي أن ينمو خلال فترة حكم الجمهوريين حوالي 6 سنوات بمعدلات ضعيفة ، لكن هذا النمو لم يكن حقيقياً اذ ان معدلات التضخم كانت مقاربة لنفس مستويات النمو مما يجعل هذا النمو ورقياً ، اضافة الى ان النمو في الاقتصاد صاحبه انفاقات خيالية على القطاع العسكرى والأمن الداخلى مما استنزف خزائن الدولة حيث يتوقع ان يصل عجز الميزانية في عام 2008م مبلغ 410 مليار دولار .. أما العجز في الميزان التجاري الذى ينتج من الفرق بين الصادرات والواردات فقد وصل في عام 2006م الى 758 مليار دولار بسبب زيادة الواردات عن الصادرات ، وتتحمل الصين الجزء الأكبر من هذه المشكلة إذ ان الصين تصدر لأمريكا اكثر بكثير مما تستورد من الولايات المتحدة ، وهذا ماجعل الصين تحقق فوائض مستمرة في ميزانها التجاري في حين ان الولايات المتحدة تحقق عجزاً مستمراً .. وقد طالب المسؤولين في البيت البيض وفي الكونجرس وفي المحافل الدولية اكثر من مرة الصين برفع قيمة عملتها امام الدولار حتى تتمكن الولايات المتحدة من بيع منتجاتها داخل الصين ، ولم يصل الأمر الى حد المطالبة فحسب ، بل تجاوز ذلك الى التهديد العلنى بحرب تجارية مع الصين ، واحيانا الى التهديد بفرض رسوم على الواردات الصينية على الرغم من تعارض ذلك مع مبادئ منظمة التجارة العالمية ..

اذا الحرب القادمة ستكون اقتصادية وسيكون اقطابها هم أقطاب الاقتصاد العالمي الجديد ، وقد بدأت ملامحها تلوح في الافق ، وأن مايحدث الان هو تحول اساسي في الفكر الاستراتيجي الاقتصادى للخمسين سنة القادمة على اقل تقدير، ومحاور هذا الفكر الجديد تركز على التالي :

تبنى سياسية الدولار الضعيف وبقوة حتى تخسر الصين وروسيا ( اكبر دولتين تحتفظان باحتياطى نقدى من الدولار ) القيمة الحقيقية لموجوداتها النقدية الدولارية ، وفى نفس الوقت دفع معدلات التضخم العالمية الى مستويات خيالية وغير مسبوقة ، من خلال ارتفاع النفط والغاز والذهب والفضة والمعادن والسلع الاساسية كالقمح والشعير والذرة وفول الصويا والكاكو وغير ذلك ، مما سيؤدى الى ارتفاع تكاليف المعيشة في جميع دول العالم بما فيها الدول الناشئة ذات الاقتصادات المتسارعة في النمو ، مما سيؤدى الى ارتفاع اجور الأيدى العاملة بدرجة كبيرة في الصين والهند الأمر الذى سيؤدى في النهاية الى ارتفاع تكاليف الانتاج لديها وارتفاع قيمة منتجاتها الى مستويات يفقدها قدرتها التنافسية العالمية .. وبذلك تنخفض الفجوة السعرية بين المنتجات الاسيوية والمنتجات الأمريكية فتصبح الولايات المتحدة قادرة على بيع منتجاتها بسهولة والمنافسة عالمياً ، اذ ان ارتفاع تكاليف الايدى العاملة في امريكا واوروبا واليابان كان سبباً رئيساً في محدودية تلك الاقتصادات عن النمو الكبير والمتسارع ..

حتى لو أدركت الصين وروسيا الخطر القادم على موجودتها الدولارية وقررت التخلص منها وهبط الدولار الى نصف او ربع قيمته الحالية فان ذلك سيساعد امريكا على تحقيق اهدافها بسرعة .. لذلك انطلق السيد جرينسبان باتجاه الخليج ناصحا بفك ارتباط العملات الخليجية بالدولار ، وهو ما يساعد على انهيار الدولار اكثر وأكثر ، وهو الهدف القادم ..

اوروبا والاتحاد الأوروبي الذى اصبح أكبر كتلة اقتصادية في العالم متجاوزاً الولايات المتحدة الامريكية من ناحية الناتج المحلى ، سيكون من السهل والسهل جداً اعادته الى الوراء لأن تكاليف الانتاج في دول الاتحاد الأوروبي القديمة مرتفعة جداً ، لكن قرار توسع الاتحاد الأوروبي باتجاه دول أوروبا الشرقية الفقيرة نسبياً كان قرارا استراتيجيا مهماً ، اذا ان اليد العاملة ذات الأجور المنخفضة القادمة من أوروبا الشرقية ستساعد الاتحاد الأوروبي مستقبلاً على انتاج منتجات ذات تكلفة منافسة عالمياً ، لكن انخفاض الدولار القياسي أمام العملة الأوروبية ( اليورو ) أصبح يهدد الصادرات الأوروبية بدرجة كبيرة جداً نظرا لإرتفاع اسعارها العالمية .. ومستقبلاً إذا ماوجدت البدائل المناسبة للمنتجات الأوروبية لدى المستهلك العالمي ، فان اوروبا ستواجه ركوداً اقتصاديا كبيراً قد يمتد لعدة سنوات .. وهذا التراجع سيعزز من تقدم الولايات المتحدة على الصعيد الإقتصادي ويمكنها من استعادة الصدارة الاقتصادية العالمية من الاتحاد الاوروبي .

اذا الحرب القادمة .. ستكون اقتصادية لاعسكرية .. ومما لاشك فيه ان شعوب الأرض قاطبة ستدفع هذه المرة ايضاً الثمن قاسياً لهذه الحرب العالمية الجديدة ، كما سبق وأن دفعت ثمناً قاسيا للحربين العالميتين الأولى والثانية .. ولكن في هذه المرة سيكون الثمن اقتصادي في صورة معدلات تضخم غير مسبوقة ستؤدى الى حرمان البشرية من الرفاهية الاجتماعية التى هي في الأصل هدف الاقتصاد والتنمية الاقتصادية .. وسيكون العالم من الناحية الاقتصادية أمام خيارين كلاهما سيئ ، الأول أن تقضى امريكا على منظمة التجارة العالمية من خلال اعادة مفهوم الحواجز التجارية والرسوم على الصادرات الأجنبية ، أو ان تمضى في تبنى مفهوم الدولار الضعيف الذى سيجلب الويلات والفقر على العالم .. ولكن مايجب أن ندركه هو أن ليس كل الخطط لابد أن تنجح ..!! فقد فشلت خطط أمريكا العسكرية والسياسية في العالم خلال العقد الحالي على الأقل .. ومن نفس المنطلق قد ينقلب السحر على الساحر .. وتفشل امريكا اقتصادياً ، ويهوى الدولار الى مستويات تهدد امريكا نفسها بالفناء والزوال ..
نسأل الله سبحانه وتعالي أن يجنبنا شر الكوارث الاقتصادية والحروب 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق